بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين
أما بعد...أيها الإخوة الأحباب :
يقول تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النــور
في إشراق هذه الآية نعيش تلك اللحظات المباركة الطيبة ... عسى أن نأخذ منها العبرة والعظة .. ونفهم عن الله مراده ... ولنتدبر هذا الآية .. آية أُحْكِمت وفُصِّلت من لَدُن حكيم خبير ....
أيها الأحباب الكرام :
إن المعركة بين الكفر والإيمان معركة قديمة بدأت منذ أن خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وأمر الملائكة أن يسجدوا له فسجدوا طائعين لخالقهم متعبدين بفعلهم إلا إبليس أبي واستكبر أن يسجد لبشرٍ خُلق من طين ، فكفر بفعله هذا وطُرد من رحمة الله عز وجل ، ثم انه سأل ربه أن ينظره إلى يوم الدين فكان له ما طلب وبدأ منذ ذلك الحين في حرب أولياء الله وغوايتهم ، فكانت البداية من آدم -عليه السلام- ومن ثَمَّ الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ، فما من نبي بعث في أمة من الأمم إلا وكان الشيطان يترصد له ولدعوته مستخدماً جميع وسائله في الصد عن سبيل الله ، فظهر في ساحة المعركة على مر العصور فريقان متضادان ،
1-فريق عَبَدَ الله وحده لا شريك له واتبع نبيه واهتدى بهديه فهؤلاء أولياء الرحمن ،
2-وفريق كفر بالله وكذَب نبيه وتصدى له وحاربه ، إما تعصباً لدين الآباء والأجداد ، وإما لملك وسلطان وإما لغير ذلك فهؤلاء هم حزب الشيطان .
وكان من حكمة الله عز وجل أن جعل ظهور الحق وتمكنه موقوفاً على ثبات الرجال وصبرهم في سبيل الحق الذي يعتقدونه وهذا ما يعرف بالأسباب البشرية ، وإلا فالله قادر على أن يرسل ملائكة من عنده ولكن كل قد خلق لما هو ميسر له .
فكانت سنة الابتلاء والتمحيص حتى يعلم الله المؤمنين ويعلم المنافقين ويعلم الصابرين ويعلم ضعاف النفوس ،قال تعالى : {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (141) سورة آل عمران ولاشك أن الله عز وجل يعلم ما كان وما سيكون فكل كبيرة وصغيرة قد كتبت في اللوح المحفوظ ، فهذا مؤمن وهذا كافر ، وهذا بر وهذا فاجر ، ولكن الله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة فهو سبحانه يحاسبهم على ما يصدر منهم من أعمال ، لا على ما يعلمه من حالهم .
يقول الله تعالى " {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء " ويقول أيضاً {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (7) (
سورة الزلزلة
فالله عز وجل يرسل الرسل حتى يدعوا الناس إلى عبادة الله عز وجل وتوحيده وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ثم إن الله عز وجل يبتليهم فينظر هل يصبرون ويحتسبون أم ينكصون ويتراجعون ويتركون ما كانوا عليه ، وبذلك يحاسب الله الناس على ما صدر منهم من أعمال في الدنيا ويجعلها مناط الثواب والعقاب بالرغم من علمه سبحانه أنها ستكون ، ولهذا كان الابتلاء في الدنيا بمثابة النهر الذي يفصل بين ضفتين فلا يصل إلى الضفة الثانية إلا من كان يجيد السباحة ويصبر على تحمل المشقة ، فحال الناس في ذلك لا يعدو قسمين ،
1-قسم بدأ في السباحة إلى الضفة الثانية ولكنه لم يصبر على مواصلة المسير ففضل الراحة والسلامة ورجع من منتصف الطريق ،
2-وقسم صبر وبذل كل ما في وسعه حتى وصل إلى الضفة الثانية بسلام ، فمثل هؤلاء كمن آمن وصبر على البلاء واحتسب فنال ما كان يرجو ، قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } (10) سورة العنكبوت
ولو نظرنا إلى سيرة الأنبياء ابتداءً من نوح عليه السلام وانتهاءً بالمصطفى- صلى الله عليه وسلم-لوجدنا أن هناك مرحلة حتمية مر بها جميعهم صلوات ربي وسلامه عليهم ، وهي مرحلة الابتلاء والاستضعاف .
فهذا نوح عليه السلام يمكث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاما ولم يؤمن به إلا القليل ومن أنه صبر وتلطف في دعوته واتبع الوسائل المختلفة فيه . . ليلاً ونهاراً . . سراً وجهاراً إلا انهم طغوا وتجبروا وازدادوا كفراً وقالوا :{ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (32) سورة هود
لقد كان ابتلاءً عصيباً وامتحاناً عسيراً أن يمكث في قومه هذه المدة الطويلة ولا يؤمن به إلا القليل ، وعندما أيقن أن القوم يكيدون له دعا ربه فقال : { رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (117) (118)سورة الشعراء
فأنجاه الله ومن معه وأغرق الذين كفروا ، ومُكِّن لنوح -عليه السلام - وللفئة المؤمنة التي اتبعتـه .
وهذا موسى عليه السلام يدعو فرعون وقومه ويريهم آيات الله ، فيقولون هذا ساحر عليم ، ويجمع فرعون كيده وينادي بالسحرة من كل مكان ويعدهم ، ويمنيهم أنهم سيكونون من المقربين ، وأن لهم لأجراً إن كانوا هم الغالبين ، ومـا هي إلا لحظات حتى ذهب سحرهم أمام عظمة صنيع الله عز وجل {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} (70) سورة طـه عندها بدأت مرحلة الابتلاء للفئة المؤمنة بموسى وعلى رأسهم السحرة الذين آمنوا وما كان جوابهم حين هددهم فرعون وتوعدهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم في جذوع النخل إلا أن قالوا له : {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (72) سورة طـه
فقتل من قتل منهم ، ونجى موسى- عليه السلام- وطائفة من المؤمنين به ، خرج بهم موسى ليلاً ، حتى إذا وصلوا إلى البحر قالوا لموسى إنا لمدركون ، فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن يضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، ومضى موسى ومن معه ، في ذلك الطريق والذي كان معجزة من معجزات موسى -عليه السلام- ، فتبعه فرعون وجنوده فأغرقهم الله وأخذهم بذنوبهم ونجّى فرعون ومن معه وانتهت المعركة وأسدل الستار معلناً عن نهاية أعتي طواغيت الأرض في ذلك الزمان .
إن الذي سن الابتلاء على عباده الصالحين لقادر على أن يأخذ المسيئين الذين يفتنون الناس عن دينهم ، وإن أمهل سبحانه في ذلك فالخير كل الخير فيما قدّره جل شأنه { فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (19) سورة النساء
فأمر هذا الدين بيد الله سبحانه وتعالى إن شـاء أظهره وقت ما شـاء وكيف ما شـاء ،
فالذي يظن أن بإمكانه الدخول في المعركة والخروج منها منتصراً دون أن يدفع ثمن تمسكه بالحق والدعوة إليه ، فهذا لم يدرك طبيعة الصراع ، بل إن الذي يسلك هذا الطريق عليه أن يعلم أنه قاب قوسين أو أدنى من الابتلاء ، ولاشك أنه ليس الأول ولا الأخير ، فقد ابتُلي الأنبياء والصالحون وفي الحديث الصحيح " أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء " ، فهي إذن سنة ماضية ما بقيت المعركة بين الكفر والإيمان قائمة ،
وهنا نذكر بعض ما لاقاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أذى وإساءة من مشركي مكة .
لما نزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم رجع إلى أم المؤمنين خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- وهو يرجف ويقول : " زملوني . . زملوني " ، وبعد أن ذهب عنه الروع أخبر السيدة (خديجة)- رضي الله عنها- بالذي حدث في غار حراء فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل فأخبره -صلى الله عليه وسلم- بالذي حدث معه ، فكان مما قاله ورقة بن نوفل " يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ، فقال صلى الله عليه وسلم : أو مُخرجيَّ هم ؟ قال : نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وان يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً " والقصة في صحيح البخاري .
لقد علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الأمر الذي أُسند إليه أمر في غاية الصعوبة ، وأدرك- صلى الله عليه وسلم -أن أمامه من العقبات والصعاب ما لا يعلمه إلا الله ولكنه مع ذلك كله مضى في أمره مستعيناً بالله .
وقد لاقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مشركي قريش الأذى الكثير ، فهذا يطرح عليه سلا الجزور وهو ساجد لربه ، وذاك يهمزه ويلمزه ، وثالث يمسك بتلابيبه ، وقد حدث هذا كله للنبي- صلى الله عليه وسلم- مع ما يتمتع به من منعة أبي طالب الذي كان سيداً من سادات قريش ، ولنلق نظرة على ما ناله أصحابه- صلى الله عليه وسلم- من تنكيل وتعذيب ، وما كان ذنبهم إلا أن قالوا ربنا الله .
فهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه- ، وقد كان من أنعم الناس ، لما سمعت أمه بإسلامه منعت النفقة عليه وأخرجته من بيته وما رده ذلك عن دينه .
وهذا بلال -رضي الله عنه- يُسلمه أمية بن خلف إلى الصبيان يلعبون به في أنحاء مكة ثم يطرحه في وقت الظهيرة ، ويضع على صدره صخرة كبيرة ، وما زاده ذلك إلا إيماناً وتسليماً وما كان شعاره يومها سوى أحد . . أحد . . وغيرهم من الصحابة كثير تعرضوا للابتلاء كعمار بن ياسر وخباب بن الأرت وعثمان بن عفان -رضي الله عنهم- أجمعين .
لقد تربى هؤلاء الرجال في أتون المحنة وخرجوا من رحمها رجالاً ، هؤلاء الرجال الذين أختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم -وكان لابد أن يختبروا ويمحصوا لأنهم سوف يقومون بحمل هذه الأمانة العظيمة ، فهم الرعيل الأول وعليهم ستدور رحى المعركة .
لقد كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- يعد المؤمنين في بداية الدعوة بأن لهم الأجر في الآخرة ، ولم يكن يعدهم بأنهم سينتصرون على قريش ويقتصون من كل من آذاهم ، وهذا كان واضحاً في القرآن المكي ، فلا يستطيع أن يصبر على هذا الأذى إلا من كان يرجو الآخرة وليس لديه أية مطامع دنيوية ، وهكذا كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين خاض بهم المعارك حتى من الله عليه بإقامة دولة الإسلام وفتح مكة .
ولو نظرنا إلى ما تمر به أمتنا الإسلامية في هذه الفترة لوجدنا نفس الأسلوب في حرب أولياء الله ، فإن كان في زمن الأنبياء طغاة متجبرون ففي زمنا هذا من هو أطغى ، وإن كان اتباع الأنبياء قد عُذبوا وقُتلوا في سبيل دينهم ، فإن أبناء الإسلام اليوم يسامون سوء العذاب فيوضعون في السجون ويفتنون عن دينهم وتنتهك أعراضهم وما ذنبهم إلا أنهم قالوا ربنا الله .
إن المصيبة التي حلت بهذه الأمة في هذا العصر تكمن في سيطرة أهل الباطل وجند الشيطان ، وفي المقابل عدم وجود القوة اللازمة لمقارعة هؤلاء الطواغيت ، إلا من بعض مَنْ هم على الطريق سائرين وللحق متبعين و تعيش هذه الأيام في غربة موحشة كتلك التي أخبر عنها الصادق المصدوق- صلى الله عليه وسلم -حينما قال " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء " فقد غزا المستشرقون بلاد الإسلام بأفكارهم الهدامة ، فعم الجهل بالدين ، واستشرى الفساد في الأرض ، وأصبح الحق باطلاً والباطل حقاً ، فأي بلاء ابتليت هذه الأمة ، وأي مصيبة حلت بها . . أبناء الإسلام يُنكل بهم في كل مكان ، والنساء المسلمات تنتهك أعراضهن ، وأين يحدث هذا ؟ يحدث هذا في ما يقوله الشاعر:
كــم صرفتنا يدٌ كنـا نصرفها وبــات يحكمنا شعباً ملكناه
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد تراه كـالطـيـر مقصوص جناحاه
إن قضيتنا مع هؤلاء الحكام المجرمين لا تُحل إلا بأحد أمرين : إما أن يتنحوا عن السلطة ويحاكموا على جرائمهم - وهذا مستحيل - وإما أن نقاتلهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهذا الذي سلكناه ، ولهذا كانت مهمة الحركات الإسلامية الجهادية في غاية الصعوبة .
فعلى المسلمين في كل مكان أن يصبروا في طريقهم الذي سلكوه ، وأن يحتسبوا عند الله ما قد يقع لهم من مصائب ونوازل ، وأن يمضوا على دربهم ، ويعلموا أن هذه سنة الله عز وجل ، وأن الله يصطفي ويختص من هذه الأمة من عباده الصالحين ، وأن لا نتعجل النصر فإن وعد الله آت لا محالة ، وما عليها إلا أن تأخذ بالأسباب وتتوكل على الله وتمضي في طريقها ، وإنها لإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة .
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين .