بين قمتي سرت وبغداد
معمر القذافي ملك ملوك العرب وأفريقيا الغائب الابرز عن قمة بغداد والقمم العربية اللاحقة بحضوره الكرنفالي وخطاباته اللاذعة وقفشاته الفكاهية التي طالما كانت فاكهة القمم العربية السابقة،
وسرت القذافي كانت قد استقبلت القمة العربية السابقة في آذار عام 2010 قبل اندلاع شرارة رياح التغيير العربي (الربيع العربي) عندما قام الشاب التونسي محمد بوعزيزي بإحراق نفسه احتجاجا على سوء الاوضاع المعيشية في بلاده، وكان القذافي قد استبق قمة سرت بتصريحات استفزازية للعراق عندما قرر ان يقوم هو بتمثيل العراق في القمة أو ربما يسمح لما يسمى بالمقاومة العراقية بتمثيل العراق في القمة، وبالفعل استقبل القذافي عددا من الافراد الذين زعموا تمثيل ما يسمى بالمقاومة العراقية قبيل انعقاد القمة، لكن مشاريعه الغريبة الاطوار باءت بالفشل كالعادة وشارك العراق الرسمي في قمة سرت، واليوم تستقبل بغداد القمة العربية في غياب القذافي الذي اطاح به تسونامي العرب في نهاية دموية دراماتيكية غير متوقعة بالنسبة له، وهو الذي كان يعتقد أن جماهيريته الخضراء في منأى عن رياح التغيير العربي التي عصفت بعروش جيرانه في تونس ومصر.
وتكتسب قمة بغداد دلالات خاصة نظرا للأحداث الكبيرة التي حصلت خلال العامين المنصرمين بعد قمة سرت والتي قادت بالنتيجة الى إقرار العرب بالأمر الواقع الحاصل في العراق منذ تسعة اعوام، فلم يعد أي معنى للاحتجاج بأن العراق بلد محتل وقد رحل الاحتلال الى غير رجعة، كما أن الديمقراطية الناهضة في العراق برغم أزماتها المستمرة صارت مرجعية للديمقراطيات الجديدة في البلدان العربية التي عصفت بها رياح التغيير العربي، وأن العرب بدأوا يلاحظون أن العملية السياسية في العراق هي الاصلب عودا حتى في بداياتها قياسا الى ما نراه اليوم في بلدان ما يسمى بالربيع العربي، حيث نجح العراقيون برغم ضخامة التحديات التي واجهوها خلال السنوات الماضية في انقاذ البلاد من حرب أهلية طاحنة كان يراهن عليها أمثال معمر القذافي بذريعة إفشال المشروع الاميركي في العراق والمنطقة.
العراق الجديد يقود اليوم العمل العربي المشترك ويستقبل القمة العربية بعيدا عن طيش الدكتاتورية التي أحرقت العراق والمنطقة منذ العام 1990 حينما استقبل صدام ضيوف القمة العربية التي عقدت آنذاك في بغداد، استقبل صدام القمة ليوجه لضيوفه خطابا تهديديا غاية في الصلافة (قطع الاعناق ولا قطع الأرزاق) وبعد أيام قلائل اجتاح الكويت فقطعت اعناق وارزاق العراقيين قبل غيرهم واحترقت البلاد وعاش العراقيون في ظل سنوات عجاف مع الحصار والمرض والجوع، سنوات تسببت في عزل العراق عن محيطه العربي والاقليمي والدولي.
إن الانسان بطبعه كائن اجتماعي ولا يستطيع أن يعيش بمعزل عن محيطه الاجتماعي، وكذلك الدول لا يمكن ان تعيش كجزر منفصلة ومعزولة عن بعضها، فالعالم يتجه اليوم نحو التكامل والتكتل بين الدول وهذا الامر تمليه حاجة ملحة، وبعض الدول العربية للاسف لا تزال بعيدة عن ادراك مدى اهمية تطوير التعاون العربي المشترك القائم لا على العواطف المشتركة وانما على المصالح المشتركة المتبادلة، وهو ما يحتم على هذه الدول تحديث آليات عمل الجامعة العربية لمواكبة التطورات الهائلة في العالم.
أوروبا القارة الكبيرة والمتنوعة استطاعت ان تُفعل مشتركات كثيرة اقتصادية وثقافية من اجل صناعة أكبر كتلة دولية مؤثرة، سعى الاتحاد الاوروبي الى تحجيم الخلافات السياسية بين أعضائه من خلال الاقتصاد والثقافة، وهو ما ينبغي على العرب القيام به، ومن هنا تأتي اهمية قمة بغداد التي تعد اقتصادية في المقام الاول نظرا لطغيان الاقتصاد على السياسة في جدول اعمالها، فعلى العرب ان يغادروا أطلال الماضي والخلافات السياسية والطائفية باتجاه المشتركات الاقتصادية والثقافية التي توحدهم وتمنحهم القوة والتماسك.
صحيح ان رمزية مستوى المشاركة لها اهمية خاصة، لكن مشاركة الدول العربية كافة في قمة بغداد يعد نجاحا كبيرا للعراق ولتجربته الديمقراطية ولمشروعه في التعاون العربي الذي يركز على تطوير المشتركات الاقتصادية والثقافية بين العرب للانتقال بهم من خرائب السياسة الى واحات الاقتصاد والثقافة ومن ضغائن الطائفية الى فضائل الديمقراطية وصولا الى التكامل العربي المنشود.
لم تقدم قمة سرت في آذار 2010 بزعامة معمر القذافي شيئا جديدا الى العمل العربي المشترك لأنها كسابقاتها قد انشغلت بالمختلف السياسي وأهملت المشترك الاقتصادي والثقافي، وبالنظر للاحداث الجسيمة التي وقعت في الربيع والخريف الماضيين فإن العرب اليوم ومع وجود ديمقراطيات نامية سيكونون اكثر نضجا في التعامل مع موضوعة تطوير آليات التعاون العربي المشترك، ومن المؤكد أن قمة بغداد ستكون انتقالة نوعية على هذا الطريق.