قصيدة رائعة لما تتمتع به من لغة عربية فصحى سليمة. و تصوير شيق للواقعِ اليوم .
.لدكتور عبدالرحمن العشماوي
.
في عصر يومٍ مُفعمٍ بالريح والغبارْ
بدأتْ رحلةُ النهار
منطلقاً في عملي مُرتَّبُ الأفكارْ
كؤوسُ شعري لم تكن تُدار
ولم تكنْ شموعُهُ في مهجتي تُنارْ
ولمْ يكنْ يُثيرني ولمْ يكنْ يُثارْ
لأنني في يومها لم ألثمِ الأزهارْ
وما سمعتُ يومها ترنُّم الأطيارْ
لكنَّني ..
سمعتُ في المذياعِ نشرة الأخبارْ
أوَّاهُ منها نشرة الأخبارْ
أخبارها كالريح و الإعصارْ
فخبرٌ عن قصَّةِ الإعمار
هل تعرفونَ قصة الإعمارْ
نعم ، نعم فكلُّكم قد سمع القرار
وخبرٌ عن غزَّةَِ الأحرار
مقلتها مسكونةٌ بمنظرِ الدَّمارْ
ولم تزل تعيشٌ قسوة الحصارْ
وخبرٌ عن قدْسنا السليبْ
يعيشُ تحت وطْأة الغريبْ
و المسجد المباركُ الحبيبْ
مهدَّدٌ بالهدمِ و التخريبْ
وخبرٌ آلمني عن مُهْجةِ العراقْ
في كلِّ يومٍ قصَّةٌ عن بؤسها تُساقْ
أوَّاهُ منها نشرةُ الأخبارْ
هل تسمعونَ نشرةَ الأخبارْ ؟
يزفُّها الأثيرُوالأقمارْ
أنصحكم ـ من أجلكم ـ أنْ تقرأوا الأذكارْ
في عصر يومٍِ مثقلٍ بثورة الترابْ
أصبحتُ فيهِ مُثخنَ الذَّهابِ والإيابْ
فلمْ أذق حلاوة الطعامِ والشرابْ
ولمْ تعانق ظمئي حلاوة الأكواب
في عصر هذا اليومِ كنت في المطارْ
وكانَ جسمي مرهقا من تَعَبِ النهارْ
وكانَ رأسي يشتكي من شدَّة الدوارْ
حتى وهمتُ أنَّهُ يدور كالإطارْ
وكنتُ في تلهُّفٍ لغفوةٍ خفيفهْ
تسعدني براحةٍ في لحظةٍ لطيفهْ
أصدقكم بأنَّني همَمتُ أن أنامْ
هممتُ أن أتيهَ في عوالم الأحلامْ
وأن أعانق الهلال والنجومَ والأجرامْ
وأن أصافح الغمامْ
وأن أكونَ فارساً ممتشق الحُسامْ
يهزُّ سيفاً صارماً في ساحة المنامْ
هممتُ أن أغادر المكان والزمانْ
وأنْ أُريحَ مقلتي وأُغمِضَ الأجفان
لكنَّهم ـ يا ويحهم ـ قد ردَّدوا الإعلانْ
وكرَّروا نداءَهم عن موعد الإقلاعْ
هيَّا احملوا متاعكم وأرْهفوا الأسماعْ
هيَّا ارحلوا إلى " دبيٍّ " حيث تلتقون
بألفِ صوتٍ شاعرٍ هناكَ تلتقونْ
هناكَ تُنشدونَ تسمعونْ
هناكَ جيلٌ شاعرٌ يُطْربهُ النشيدْ
يُعجبُهُ تناغمُ القصيدْ
وحينما يسمعهُ يظلُّ يستزيدْ
وهبطتْ عابرةُ الفضاءْ
صديقة الرياحِ والأنواءْ
عاشقةُ الأفق
حبيبة الشفق
هذي دبيُّ هذه بوابة القدومْ
وهذهِ أبراجُها وهذه النجومْ
وهذه سفنُها في بحرها تعومْ
وهذه أطيافها من فوقنا تحومْ
هذا مطارٌ يبهر الزوَّارْ
مساحةٌ كبيرةٌ صارخة الأنوارْ
تجارةٌ مفتوحةٌ محمومةُ الأسعارْ
وصورٌ معروضةٌ ليس لها إطارْ
الناسُ فيها بينَ سائرٍ يسير
وبينَ راكضٍ يكادُ أنْ يطيرْ
لله ما تراهُ مقلتيَّ من البشرْ
سبحانَ من أوجدهمْ بهذه الصورْ
تختلفُ الألوانُ و المشاهدْ تختلفُ النياتُ والمقاصدْ
تختلفُ الأفكارُ و العقائدْ وكلُّهم في عيشهِ يُكابدْ
هذا الضجيج والصخبْ
هذي النحورُ و الصدور و الركبْ
رجالهمْ ، نساؤهم ، ومن مشى ومن وثبْ
ومنْ تراخى جالساً أقعده التعبْ
ومن أتى ومن ذهبْ
ومن تناءى واقتربْ
من أينَ يا دُبيُّ أبدأ الكلامْ
فالشعر هزَّ سيفهُ وقرَّب السهامْ
وانطلقتْ قصيدتي جامحة اللغهْ
كؤوسها من الهدوءِ مُفرَغَهْ
والتفتتْ قصيدتي إلى اليمينِ لفتةَ الكَمَدْ
وحزنها في قلبها المولَّهِ اتَّقدْ
تعوَّذتْ بربها من شرِّ ما خلقْ
وشرِّ كلِّ من فسقْ
وشرِّ كلِّ ما سرى وما غّسّقْ
تعوَّذت قصيدتي من شرِّ ما مضى وما وَرَدْ
من شرِّ كلِّ حاسدٍ إذا حسدْ
وبعد لحظة من الذهولْ
سمعتها تقول :
انظر إلى تلك التي انظر إلى هذا الذي
أنظر إلى ، ماذا أرى أمَا هنا من مُنْقِذِ ؟!
أما ترى كما أرى يا عاشق الإلهامْ ؟
أما ترى الأنامْ ؟
أما ترى ما خبَّأت عباءةُ الظلامْ ؟
هذي هنا يا ويلها ... هل نسيتْ ثيابها
وهذه يا ويحها ... هل فقدت صوابها
وهذه ما بالها ... حانقةٌ مشاكسهْ
وهذهِ مائلةٌ ... مُميلةٌ ومائسهْ
وهذه مقبوضة الجبينِ عابسهْ
وهذه هادئة العينينِ ناعسهْ
وهذه نحيلةٌ كالعودِ يابسهْ
وهذه شفتها مقلوبهْ
وهذه كأنها أنبوبهْ
وهذه طويلةٌ سَلْهوبَهْ
وهذه ، وهذه ، فقلت يا قصيدتي تمهَّلي
تعوَّذي باللهِ لا تولْوليْ
و التفتت قصيدتي إلى اليسارِ مُتْعبهْ
فهمْهَمَتْ وغمغمَتْ وأصبحتْ مُضطربهْ
وبعد لحظةٍ جديدةٍ من الذهولْ
سمعتها تقولْ :
أمَّا الرجالُ فالرِّجالُ ، يا رجالْ
أقول : ماذا أيُّها الرجالْ
هل أصف الأحوالْ ؟
أم أنطوي على الأسى في خاطري
وأترك المجالْ ؟
أما الرجالُ يا أحبتي الأماجدْ
فإنَّهم قد أشعلوا في قلبي المواقدْ
رأيتهم أعجوبةً في عصرنا العجيبْ
إياكَ أنْ تلومني يا شاعري الحبيبْ
فقلتُ : يا قصيدتي ترفقي ، ترفقي
فردَّدتْ في نشوةٍ
تدفَّقي ، تدفَّقي
فقلتُ : بل ترفقي
فردَّدت : تدفقي ، تدفقي
وصرتُ في ذهولْ ، فانطلقتْ تقولْ :
بكيتُ للرجالِ مثلما بكيتُ للنساءْ
و الله ما ظلمتهم يا شاعر الوفاءْ
رأيتهم في حالةٍ تدعوا إلى الرِّثاءْ
رأيتهم يمشونَ في استرخاءْ
تأبَّطوا أذرعةَ النساءْ
قدْ لوَّنوا وجوههمْ وضيَّقوا الرِّداءْ
تشابهت وجوههمْ كأنَّهم سواءْ
كأنهم لم يعرفوا طبيعة الحياءْ
انظر معي ، فذلك الذي يدخن السيجارْ
في عينه احمرارْ ، يسير في انكسارْ
وصوتهُ الثقيلُ يلفتُ الأنظارْ
يميلُ يمنةً ويسرَةً يناطح الجدارْ
وماله في سيرهِ قرارْ
وانظر هناك لترى بعض الأمور المخجلهْ
فرجلٌ أهدابهُ ـ مثل النساءِ ـ مُسْبلَهْ
ورجلٌ لِمَّتُهُ كأختِهِ مرجَّلهْ
ورجلٌ ثيابُهُ مُهلْهَلَهْ
ورجلٌ أقراطهُ من أذنيهِ مُرْسلَهْ
و رجلٌ في صدرهِ ، فوق القميص ، سلسلهْ
ورجلٌ مضطربٌ يسير سير الحجلهْ
وأصبحت قصيدتي في حيرةٍ وبلبلهْ
ما بينَ حال رجلٍ أنثى ، وأنثى رجُلَهْ
وانصرفت قصيدتي متعبةً كئيبهْ
وقد رأيتُ بعدها حادثةً عجيبهْ
امرأةٌ غريبهْ ، دموعُها صبيبهْ
يظنُّ من شاهدها بأنَّها مريبهْ
رأيتها جالسةً تلوذُ بالجدارْ
في حالة انكسارْ
أو أنها في لحظة انتظارْ
أو أنها في ساعة احتضارْ
أو أنها كعصرها تعيش حالة انشطارْ
امرأة جميلة الهندامْ
محفوفةٌ بهالة احترامْ
أظنها مسكونةٌ بالحب و الغرامْ
جلبابها الفضفاضُ يلفتُ النظرْ
أمَّا خمارُها فإنهُ يلامسُ القمرْ
دنوتُ منها حَذِراً أصارعُ الوجلْ
سلَّمتُ ردَّت السلامَ في خجلْ
ما أروعَ الخجلْ
سألتها أسئلة كثيرهْ ، جميعها مثيرهْ
هل أنت من مقدسنا طريده ؟؟
هل أنت من غزَّتنا شريدهْ ؟؟
هل أنت من عراقنا مهاجرهْ ؟
هل أنت من صومالنا مسافرهْ ؟
هل أنت من أفغاننا الحبيبهْ ؟
أم أنت من كشميرنا الخصيبهْ ؟
أم أنت من كواكبٍ بعيدهْ
هَجَرْتِها وصرتِ ها هنا وحيدهْ ؟!
امرأةٌ غريبهْ
رأيتها في ساحة المطارْ
تلوذُ بالجدارْ
رأيتها في الشارع الكبير ، وحيدةً تسيرْ
تلوذ بالجدارْ
رأيتها في المتجر الكبيرْ ، وحيدةً تسيرْ
تلوذ بالجدارْ
رأيتها في " فندق الضيافهْ "
في غاية اللطافهْ
لكنها تجلس في زاويةٍ تلوذُ بالجدارْ
كأنها في حالة انكسارْ ، أو لحظة انتظارْ
أو ساعة احتضارْ
شعرتُ نحوها ـ واالله ـ بالحنانْ
رأيتها كئيبةً حزينةَ الوجدانْ
لكنها ثابتة الجنان
كريمة رفيعة المكانْ
في وجهها أصالةٌ تبصرها العينانْ
وأثرٌ يلوحُ من قحطانْ
سألتها ـ بالله ـ بعد أنْ منحتها الأمانْ
من أنتِ يا سيدة الحسانْ
تحدَّثي وأسهبي في الشرح والبيانْ
تنهَّدتْ وأرسلتْ دموعها
وأوقدت من دمعها شموعها
وانطلقت تقولْ :
أنا التي نشأتُ في القممْ
أنا الشموخُ والإباءُ و الشَّممْ
أنا العطاءُ والسَّخاءُ و الكرمْ
أنا التي أرفع راية القيمْ
أنا التي بروعتي يبتهج القلمْ
أنا التي ينطلق اللسان بي ، ويفرح النَّغمْ
أنا التي تغرد الأطيار بي ، ويهدل الحمامْ
أنا التي تمدحني ألسنةُ الكرامْ
أنا التي ، فقلتُ : مهلاً أوجزي واختصري الكلامْ
فأرْعدتْ وأبرقتْ وهزَّت السنانْ
وشنَّفتْ بصوتها الآذانْ
وأبهجتْ بعطرها المكانْ
وانطلقتْ تقولْ :
أنا التي أسكنتموها ظلمة الكهوفْ
أنا التي أوردْتموها مورد الحتوفْ
تركتومها حول نفسها تطوفْ
وشمسها تصارع الكسوفْ
أنا التي تركتموها وحدها تقاومْ
أبناؤها أنتم هنا ، وأهلها الأكارمْ
لكنكمْ ألقمتموها حجر الهزائمْ
منذ اعتمدتم لغة الأعاجمْ
أنا التي مزَّقني الإعلامْ
وأتعبتني قسوة اللِّجامْ
أنا التي أخاطب القلوب والعقولْ
وأغرس الأزهار في الحقولْ
وأنثر الإبداع في الجبالِ و السهولْ
أنا التي شرفني بحبه الرسولْ
أنا التي أطرِّز البيانْ
أحرك الوجدانْ
أنا التي بأحرفي يرتفع الأذانْ
وحينما يحتدم السباق أكسب الرهانْ
أنا التي بأحرفي تنزل القرآنْ
فهل عرفتَ من أنا يا أيها الحيرانْ
أصابني الوجومْ
وخلتُ أني في الضحى أشاهد النجومْ
وأنني في بحر حسرتي أعومْ
نَعَم ، نعمْ ، يا لغتي الحبيبهْ
أصبحتِ في بلادنا غريبهْ
تناوشتكِ لغةُ الأعاجِمِ ، ولهجاتٌ أصبحتْ تُهاجمْ
تمصَّرتْ ، تلبْنَنَتْ ، تَخَلْيَجتْ ، تَمَغْرَبَتْ
وشرَّقت وغرَّبتْ
وحيَّرت أجيالنا ، وبعدت وقربت
نعم ، نعم ، يا لغة القرآن
يا لغة الجمال والبهاء ، ولغة الصفاءْ
يا لغة البيانْ ، يا لغة الفردوس و الجنانْ
لا تيأسي من فارسٍ أصيلْ
تُطربهُ سنابكُ الخيولِ و الصهيلْ
يسقيكِ من وفائِهِ ما ينعش النَّخيلْ
ينالُ فيكِ شرفاً ليسَ لهُ مثيل