أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بدأ الإسلامُ غريباً وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء».وزاد ابن ماجه: «قيل: ومن الغرباء؟ قال: النُّزَّاع من القبائل».
وفي رواية للترمذي: «فطوبى للغرباء الذين يُصلحون ما أفسد الناس من بعدى من أمتي».هذا الحديث الجليل الذي خرج من فم أصدق من أقلت الأرض وأظلت السماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه معان كريمة وجليلة تفسر كثيرا مما نراه اليوم ونعيشه.
فمعنى «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا»: أن الإسلام في أول أمره لما كان المؤمنون به في بداية الأمر قلة، عُدُّوا كالغرباء بين أهلهم، وسيعود في آخر الزمان غريبا، يقل أهله المستمسكون به كما كانوا قلة عند ظهوره.
ويرى بعض العلماء: أنه بدأ غريبا عن البلد التي نشأ فيها صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم وهي مكة، فكان انتشاره وظهوره من المدينة حين هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم، بنصرة الأوس والخزرج، وسيعود في آخر عمره إلى مثل ذلك حين يجمع الله لنصرته والدعوة إليه أمثال الأوس والخزرج في قوة الإيمان وشدة البأس:
ولئن عرف التاريخ أوسا وخزرجا فلله أوس قادمون وخزرج
وإن كنوز الغيب لتخفي طلائعا صابرة رغم المكائد تخرج
ويرى بعض العلماء أن معنى الحديث أن مبادئ الإسلام كانت بالنسبة للقوم الذين ظهر فيهم مستغربة يعجبون منها؛ إذ أنهم كانوا على الشرك فلما جاءهم النبي بدعوة التوحيد قالوا: ]أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ[ وكانوا يرون أن الناس فئات بحسب أنسابهم وأحسابهم، فجاء الإسلام ليقول ]إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[ فاستغربوا هذا، وهكذا كانت كل معاني الخير والرحمة والكرامة الإنسانية التي دعا إليها الإسلام غريبة على أبي جهل وأمثاله الذين ألفوا ألوان الشرك المختلفة وفنون الظلم والفساد، والذين لم يسمعوا من قبل بالتوحيد الخالص، والذين أذهلهم أن تساوي الدعوة بين بلال الحبشي وأبي جهل القرشي، وأن تنادي بالحرية بالمساواة بين الخلق، وأن تهتم بترسيخ مبادئ العفة والطهارة وترك الخمور والمنكرات، وسيكون ذلك في آخر الزمان عند خلفاء أبى جهل الذين يستغربون مبادئ الإسلام ويعجبون منها، ويراها بعضهم خارج الزمان والعصر؛ لشدة ما درجوا عليه من الفساد.
ويرى بعض العلماء أن المعنى: أن أهل الدين في الصدر الأول كانوا غرباء ينكرهم الناس، بل يقاطعونهم ويدعون إلى مقاطعتهم، وكذلك في آخر الزمان سوف يتكالب الأعداء والخصوم ويحاولون أن يحاصروا المؤمنين بهذا الدين ويضيقوا عليهم ويقاطعوهم فيكونون غرباء.
ويرى فريق من أهل العلم أن الإسلام كان غريبا في سرعة انتشاره، فلم يمض على ظهوره ربع قرن حتى أصبح يملأ الجزيرة العربية كلها، وأجزاء كبيرة من الإمبراطوريتين العظيمتين (فارس والروم)، وكان غزوه للنفوس أمرا غريبا عجيبا، إذ لاقت أفكاره قبولا عجيبا عند كل فئات وأجناس الناس المختلفة فكان ذلك غريبا،وهكذا يكون الأمر في آخر الزمان.
أولست معي في أن كل هذه المعاني صحيحة، خصوصا ونحن نرى من بني ديننا وجلدتنا من يتعجبون من الدعوة إلى الرجوع إلى المنبع الصافي والشريعة العادلة، ويسمونها أحيانا رجعية، ويصمونها أحيانا بالتخلف، ويتهمون الإسلام بالإرهاب، ويتعجبون أنه ما زال هناك ناس يؤمنون بمبادئ العفة والطهارة ويقدسون الأخلاق الكريمة ويرفضون الأخلاق النفعية ويحترمون القيم التي أمر الله بها، أولست معي أن ثمة طوائف كثيرة جدا من بعض أبناء الإسلام الجاهلين به ومن أعدائه المتربصين له تعادي الإسلام وتخاصم شريعته وتواجهه وتعرضه لمآسي وضغوط من داخل بلاد الإسلام ومن خارجها، إلا أنه رغم ذلك يشق طريقه إلى قلوب الناس في بلاد الإسلام أو في غيرها.
أو لست ترى معي إذن أن في الحديث بشارة بعلو الإسلام آخرا كما علا أولا، وبسرعة انتشاره آخرا إن شاء الله كما كان أولا، وبأنه سيتغلب على كل من يواجهونه آخرا كما تغلب على كل من تصدى له أولا، وسيكتب الله له الغلبة والانتشار رغم أنف الحاقدين والكارهين.
أما معنى قوله صلى الله عليه وسلم «فطوبى للغرباء» فهو بشارة لكل الغرباء الذين يتعرضون لكل هذه الموجات من الإرهاب والتشكيك والغمز واللمز والاستغراب من الناس، وقد جاء في بعض الروايات أنهم أناس صالحون في أناس سوء كثير، مَنْ يعصيهم أكثرُ ممن يطيعهم. وقد فسرهم الحديث بأنهم «النُّزَّاع من القبائل» وهم الذين نُزعوا عن أهلهم وعشيرتهم، وكانوا أصنافا من قبائل شتى لا يحدهم جنس ولا لغة ولا طائفة، ينتشرون على امتداد هذه الدنيا، يحملون رسالة واحدة هي الإصلاح، فهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنته صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفون الفوارق التي صنعها الاستعمار بين بلاد الإسلام، فكل المسلمين إخوانهم وكل بلاد الإسلام بلادهم.
ولست أرى سوى الإسلام لي وطنا الشام فيه ووادي النيل سِيَّانِ
وحيثما ذُكـر اسمُ الله في وطـن أعددتُ أرجاءَه من لبِّ أوطاني
هكذا يفهم حملة رسالة الإسلام اليوم الإسلامَ ديناً لا يتحيز لجنسيةٍ ولا لعصبيةٍ ولا للغة، إنما هو دين عالمي يدخله ويحمله كلُّ الناس من قبائل شتى ومن نوازع متفرقة، وهذه علامة صحة الدعوة الإسلامية الآن.
نعم، في وسط هذا الجو الملبد بالأعداء، والملبد بالمؤامرات على الإسلام وأهله وقيمه ومبادئه، سواء من المسلمين الجاهلين أو من المنافقين أو من أعداء الملة والدين الذين يتكالبون على مواجهة المد الإسلامي وعلى منع انتشار روح الإسلام ومبادئه بين الأمة، نجد حملة رسالة الإصلاح يشقون طريقهم ويضربون بأنوارهم كل ظلمات الفساد والغوغائية؛ ليشرحوا للناس حقيقة الإسلام ويجمعوا الناس على طريق الله تبارك وتعالى، يصلحون ما أفسد الناس، متجملين بالصبر والثبات والتصميم على حمل رسالة الإسلام، واثقين من نصر الله تبارك وتعالى، لا يهمهم أن يستغرب الناس دعوتهم، ولا أن تتكالب عليها كل القوى، ولا أن تكثر المؤامرات التي تحاك لهم، فهم ماضون حتى يبلغ الله بهم أمره، وهم الطائفة الظاهرة الذين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.
إنها ليست الغربة الدالة على القلة والذلة، بل هي الغربة المبشرة بعلو هذه الراية وبنصر هذه الرسالة إن شاء الله، وقد بدت تباشيرها بانتصار وانتشار ثورات الربيع العربي، وها هي أسود كتائب القسام وسرايا الجهاد وكل فصائل المقاومة الحرة تكتب صفحات مضيئة في هذه العودة المظفرة للإسلام وشريعته وقيمه وتقدم أرواح ودماء قادتها وقودا يذكي حرارة الإيمان بين يدي الفجر الباسم الذي بزغت أنواره، وشعارهم الخالد: : إنه لجهاد.. نصر أو استشهاد.
قبسات من روح شيخنا جابر قميحة رحمه الله:
«إن الكلمة عرض الشاعر.. فإذا مالت نحو الدرك الأدنى السافل.. في مستنقع مدح داعر.. بنفاق السلطان الجائر.. كانت لعنة.. تطرد صاحبها مذمومًا.. من فردوس الله الأعظم.
وأنا عشت لقلمي شاعر.. عشت لقلمي.. ليس بقلمي عشت.. عزيز النفس أبيًّا.. عاتي الضرم.. حتى في ظلمات الألم.. عشت أنيسي صوت الله.. من عزته أجنى الجاه.. وبإحساسي بأعماقي كنت أراه».
ترى هل يعي كل المثقفين والكُتَّاب أيضا أن الكلمة عرض الكاتب، وهل يعي نجوم الفضائيات أن الكلمة عرض القائل؟!