عمالقة في التاريخ ومثل للأجيال
د. توفيق الواعي
إذا أردت أن تعرف معادن الرجال، فاسأل خبراء النفوس، لا مروضي القردة وبهلوانات العروش. من ذلك ما كتبه الصحفي الشهير مصطفى أمين في عموده فكرة عن رجل عملاق في دنيا الأقزام وقائد جبل في عالم السفوح والمستنقعات، فقال:
«أُعجبت بصموده، انهالت على رأسه الضربات فلم يركع، حاصرته المصائب فلم ييأس، تلقى الطعنات من الخلف فلم يسقط على الأرض، كان يحلم وكل من حوله يائسون، كان قوياً وأنصاره ينفضون ويستضعفون، رأيته في محنته أكبر منه في مجده، سقط من المقعد واقفاً وغيره يجلس فوق المقعد راكعاً، رأيته يستعذب الحرمان وغيره لا يستعذب إلا السلطان. فالرجال كالمعادن لا تظهر قيمتهم الحقيقية إلا إذا وضعوا في النار، هنا يظهر الفرق بين الرجل الحديدي والرجل القش، بين الذي يموت واقفاً والذي يعيش راكعاً، بين الذي يكبر من الشدائد والذي يتضاءل في المحن والأزمات. رأيته يستقبل المحنة بابتسامة كأنه يستقبل النعمة، ينام على الأسفلت كأنه ينام على مرتبة من ريش النعام، يأكل الخبز الممزوج بالتراب ويحمد الله وكأنه يتناول الطعام على مائدة ملكية، تُعارضه فلا يغضب، وتُناقشه فلا يحقد، يتقبل النقد بصدرٍ رحب، ويتقبل الثناء بخجل وحياء، لا يجحد لفاضل فضله، ولا يذكر إنساناً بسوء، إذا جاء مَن طعنه بخنجر في ظهره لا يلعنه ولكن يقول: سامحه الله! عشتُ معه سنوات طويلة، كان بين زنزانته وزنزانتي زنزانة واحدة، كنتُ أراه كلما فتحوا باب زنزانتي، وكانت بينه وبين بعض المسجونين السياسيين مناقشاتٌ طويلة، كانوا عدداً من المسجونين الذين عُذبوا وصلبوا وضربوا وأُهينوا وانتهكت أعراضهم، كانوا يصرون على الثأر والانتقام من معذبيهم بعد أن يخرجوا إلى الحرية، سيفعلون بهم ما فعلوه فيهم، سيذيقونهم من نفس الكأس التي أرغموهم على تجرعها، كان يعارضهم، ويقول لهم هذه مهمة الله وليست مهمتنا، نحن دعاة ولسنا قضاة، كانوا يحتدون فيهدأ، ويشتدون ويلين، ويرفعون أصواتهم ويخفض صوته، ويهاجمونه فيبتسم، ويتطاولون عليه فيقول لهم: هذا حقكم، لا ألوم المجلود إذا صرخ من ألم السياط، لا أعاتب المطعون بالسيف إذا وقع بعض دمه على ثيابي، لا أطلب منكم أن تعفوا وإنما أرجوكم أن تتركوا الأمر إلى الله، فهو المنتقم الجبار، عذاب الله على الظالم أقسى من كل ما تستطيعون من عذاب، لا أريد أن نتساوى نحن المظلومين مع الذين ظلمونا، بطشوا فنبطش بهم، ظلموا فنظلمهم، واجبنا أن نقابل الظلم بالعدل، والقسوة بالرحمة، والجبروت بالتسامح، والعدوان بالصلاة، كان متمسكاً بدينه بغير تعصب، مؤمناً بالعدل كارهاً للظلم، يرفض العنف ويقول: ما حاجتنا للمسدس ولنا لسان؟! ما حاجتنا للقنبلة ودوي صوت المظلومين أعلى من انفجار الديناميت، كان اسم هذا الرجل هو حسن الهضيبي.. عليه رحمة الله».
وقال الشيخ محمد الغزالي الداعية الكبير عن الرجل: «من أيامٍ مات الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان وبلغتني وصيته، لقد أوصى أن يدفن خفية لا إعلان ولا مواكب وطلب أن يوارى جثمانه في مقابر الصدقة! وعقدت لساني دهشة وأنا أسمع العبارة الأخيرة «في مقابر الصدقة»، إنني أعرف حسن الهضيبي، ففي نفس الرجل ترفّع وأنفة لا يتكلفها، وهو إذا اعتقد شيئاً استمات فيه دون لف أو مكر.. قلت: لم مقابر الصدقة؟ ولم يغب عني الجواب، لقد كان مستشاراً راسخ المكانة رفيع الهامة.
لو اشتغل بمهاجمة الشريعة الإسلامية لنال جائزة الدولة التقديرية التي نالها غيره، ولو خدم الغزو الثقافي لعاش في شيخوخته موفور الراحة مكفول الرزق، ولكنه خدم الإسلام؛ فتجرع الصعاب والعلقم.. طعن مع الدين الجريح، وأهين مع الدين المهان؛ أراد أن تصحبه هذه المكانة في منقلبه إلى الله.. فليدفن في مقابر الصدقة مع النكرات التي لا يباليهم المجتمع.. فليدفن مع ناس أسلموا أرواحهم في غرفات السجن الحربي وهم رازحون تحت وطأة عذاب تنوء به الجبال..!
{ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا "23"}(الأحزاب)، ألا فسلام الله على الرجال الذين يحفظون للحق كرامته وللإيمان عزته، سلام عليهم ما دعا داع إلى الله وأذن مؤذن للحق إلى يوم الدين، وسلام على رجال الحق ورواد الصدق وعمالقة الجهاد، وطليعة المجد، أصحاب العقول الفطنة والعبقريات المبدعة، الساعين إلى البحث عن الهداة في دنيا الضلال، والباحثين عن القيادات المبهرة في عالم الهزائم المنكرة، لينضم ركب الخالدين بعضه إلى بعض وتسعد المسيرة الخيرة.