البلاغة والبيان
قال علي بن عيسى الرمَّاني :
البلاغة ما حط التكلف عنه ، وبنى على التبيين ، وكانت الفائدة أغلب عليه من القافية بأن جمع مع ذلك سهولة المخرج ، مع قرب المتناول ، وعذوبة اللفظ ، ومع رشاقة المعنى ، وأن يكون حسن الابتداء كحسن الانتهاء ، وحسن الوصل كحسن القطع ، في المعنى والسمع وكانت كل كلمة قد وقعت في حقها ، وإلى جنب اختها ، حتى لا يقال : لو كان كذا في موضع كذا لكان أولى ! وحتى لا يكون فيه لفظ مختلف ، ولا معنى مستكره ، ثم ألبس بهاء الحكمة ، ونور المعرفة ، وشرف المعنى ، وجزالة اللفظ ، وكانت حلاوته في الصدر ، وجلالته في النفس ، تفتق الفهم ، وتنثر دقائق الحكم ، وكان ظاهر النفع ، شريف القصد ، معتدل الوزن ، جميل المذهب ، كريم المطلب ، فصيحاً في معناه ، بيناً في فحواه ، وكلُّ هذه الشروط قد حواها القرآن ، ولذلك عجز عن معارضته جميع الأنام .
ووصف العتابي رجلاً بليغاً فقال : كان يظهر ما غمض من الحجة ، ويصور الباطل في صورة الحق ، ويفهمك الحاجة من غير إعادة ولا استعانة .
قيل له : وما الاستعانة ؟ قال : يقول عند مقاطع كلامه : يا هناة ، واسمع ، وفهمت ! وما أشبه ذلك .
وهذا من أمارات العجز ، ودلائل الحصر ! وإنما ينقطع عليه كلامه ، فيحاول وصله بهذا فيكون أشد لانقطاعه .
وقال الجاحظ : البيان اسم لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى ، وهتك لك الحجب دون الضمير ، حتى يقضي السامع إلى حقيقته ، ويهجم على محصوله ، كائناً ما كان ذلك البيان ، ومن أي جنس كان ذلك الدليل ؛ لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام ؛ فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع .
زهر الآداب : 100/106/107 .